الأربعاء، 22 أغسطس 2012

من تحقيق الذات إلى تنمية الابتكار








 

من تحقيق الذات إلى تنمية الابتكار

 

 على المستوى اللغوي, يعتمد العديد من الباحثين العرب عبارة "تحقيق الذات" كمقابل للعبارة الفرنسية Actualisation de soi أو  Autoactualisation, وللعبارة الإنجليزية Self-actualisation[1]. وهناك ترجمات فرنسية تميل إلى استعمال عبارة "Réalisation de soi كمرادف للعبارة الإنجليزية الأخيرة. وتدل كلمة "تحقيقActualisation في معجم Robert على الانتقال من حالة القوة إلى الفعل, أو من حالة الإمكان إلى الحالة الواقعية[2](حالة التحقق الفعلي). وهو نفس المعنى الذي نجده في معجم لالاند[3]. ويعتبر هكسلي J.Huxley (1953) أنه مقارنة مع أي كلمة أخرى يتميز مصطلح "تحقيق" بكونه يصف الجانب الإيجابي من النمو أو الارتقاء الإنساني ـ أي تحقيق الإمكانات الكامنة في الفرد, وإشباع الحاجات النفسية والمادية, ونمو خصائص جديدة للخبرة التي يستمتع بها الفرد, وبناء الشخصية[4]. ويعتبر لافون Lafont أن هذا المعنى لـ"التحقيق" أصبح سائدا اليوم في مجال علم  

النفس[5]

 

إن التحديد السيكولوجي لمفهوم تحقيق الذات يتأطر نظريا, وبشكل أساسي داخل اتجاه أساسي في علم النفس, هو الاتجاه الإنساني الذي يمثله أساسا كل من أبراهام ماسلو Abraham Maslow  (1916-1972) وإيريك فروم Eric Fromm (1900-1980) وكارل روجرز Carl Rogers (1902-1987). وإذا كان مفهوم تحقيق الذات لدى هؤلاء يكتسي بعدا سيكولوجيا عميقا باعتباره دافعا في جزء كبير من النشاط الإنساني, فإن جذوره تمتد في الفلسفة الوجودية وفي المنهج الفينومينولوجي, وخاصة في أفكار كيركيجارد وشوبنهور ونيتشه, وياسبرز وهايدجر, وهوسرل وسارتر, بل وتمتد إلى تصورات سقراط والقديس أوغسطين وباسكال ممن أكدوا على التوق الإنساني الدائم نحو التطور والامتداد والتحقق[6]. كما أن العديد من علماء النفس أسسوا مفاهيم تعبر عن الكيفية التي يتمكن من خلالها الإنسان إلى تحقيق ذلك الهدف, أي تحقق واندماج كافة جوانب الشخصية. فهي الكيفية التي سماها جولدشتين K.Goldstein )1939( وماسلو سنة )1954( بـ"تحقيق الذات", وإريك فروم E.Fromm )1941( بـ"التوجه المنتج", وسنيج وكومبز A.Combs & D.Snygg )1949( بـ"استمرار وتعزيز الذات الظاهرية", وما أسمته كارين هورني K.Horney    )1950( بـ"الذات الحقيقية وإدراكها", ورايسمان D.Riesman )1950( بـ"الشخصي المستقل", وروجرز )1951(بـ"التحقيق والاحتفاظ والتعزيز لخبرات الكائن", وما داعه رولو مايR.May )1953( بـ"الكائن الوجوديوهي أيضا "الصيرورة الإبداعية" عند جوردون ألبورت Allport )1955( [7]. ورغم الطابع الفينومينولوجي الذي تنطوي عليه هذه المفاهيم فإنها تشير من جهة إلى دوافع عميقة متأصلة في الإنسان نحو تفعيل وتنشيط قدراته المتعددة من خلال مختلف مجالات الخلق والإبداع. كما تدل من جهة ثانية على إمكانية تحقيق مصالحة بين مختلف حقول المعرفة, الفلسفية والسيكولوجية والبيولوجية العصبيةإلخ, والتي تؤكد على تعدد وتنوع القدرات الإنسانية, وتعدد وتنوع كيفيات تحقق هذه القدرات. وهي مصالحة بقدر ما تكشف عن الإمكانيات التي يزخر بها الذهن الإنساني, تكشف كذلك عن قصور المقاربة الواحدة في تفسير تعقد وتعدد هذه الإمكانيات[8].
يعتبر ماسلو أن كل إنسان يتوفر على بنية داخلية طبيعية فطرية في جزء منها. وفي هذه البنية ـ التي يمكن دراستها علميا ـ هناك جزء ينتمي إلى الفرد, وجزء آخر ينتمي إلى النوع. وتتضمن هذه البنية الحاجات الأساسية المتعلقة بالحياة والأمن والتملك والعاطفة, وتقدير الآخرين وتقدير الذات, وتحقيق الذات, والمشاعر الإنسانية العميقة, والقدرات الإنسانية الأساسية. وهي حاجات إن لم تكن خيرة بطبيعتها فهي على الأقل محايدة. أما ما يتعلق بالعدوانية والسادية والقسوة والمكر, فلا تبدو أنها عناصر أولية بقدر ما تشكل ردود أفعال عنيفة ناتجة عن إحباط تلك الحاجات والمشاعر. ومادامت هذه البنيات النفسية خيرة أو محايدة أكثر مما هي عنيفة, فمن الأفضل السماح لها بالتعبير عن نفسها من أن تكبح وتردع, وذلك حتى يتصرف الإنسان بشكل سليم ومثمر وناجع[9]. لقد افترض ماسلو أن الحاجات الإنسانية تنتظم تصاعديا حسب درجة قوتها؛ فكلما أشبعت حاجة إلا وظهرت حاجة أخرى تتطلب إشباعها. وتتدرج هذه الحاجات كما يلي: الحاجات الفيسيولوجية الأساسية ـ حاجات الحماية والأمن ـ حاجات الانتماء والحب ـ حاجات الاحترام والتقدير ـ حاجات تحقيق الذات. وبالرغم من افتراض ماسلو أنه من الضروري إشباع الحاجات "الدنيا" قبل الحاجات "العليا", إلا أنه يقر بوجود استثناءات تؤكد إمكانية سعي المبدعين لتحقيق ذاتهم بالرغم من ظروف حياتهم الصعبة التي حالت دون إشباع حاجاتهم "الدنيا".
تعني الحاجة إلى تحقيق الذات حسب ماسلو حاجة الفرد إلى استخدام كل ما يملكه من إمكانات وقدرات ومواهب, أي أن يحول ما هو ممكن لديه (وما هو موجود بالقوة) إلى تحقق فعلي (الوجود بالفعل). وتتجلى هذه الحاجة فيما يبذله الشخص من مجهود كي تتحقق وحدة قدراته بشكل مقبول وفعال, ويتمكن الفرد من خلال ذلك من تحقيق الاندماج الذاتي, والانفتاح على التجربة, والوعي بشخصيته الخاصة؛ وبالتالي يكون أكثر عفوية وإبداعا؛ من أجل أن يصبح الفرد هو ذاته عبر تحقيقه لإمكاناته وقدراته[10]. فالحاجة إلى تحقيق الذات تعني إذن الاستخدام الأمثل لما يملكه الفرد من إمكانات وقدرات, حتى يصل إلى الحالة التي يرغب في أن يكون عليها فعلا.  ومن هنا يمكن القول بأن تحقيق الذات عند ماسلو يعني الطاقة الدافعة نحو الإبداع والابتكار. بل إن مفهوم الابتكار يكاد يتطابق مع مفهوم تحقيق الذات والامتلاء بالإنسانية عند ماسلو[11]. وفي نفس السياق يذهب كارل روجرز Carl Rogers إلى أن الدافع إلى الإبداع هو ميل الإنسان إلى تحقيق ذاته, وأن يصبح ما لديه من إمكانات محققا. وتوصل روجرز ـ من خلال تجاربه العيادية ـ إلى أن هذا الميل يوجد لدى كل فرد, ويحتاج فقط إلى المناسبة الملائمة كي يبرز ويتحقق[12]. هكذا يقدم الاتجاه الإنساني, الذي يمثله ماسلو وروجرز وإيريك فروم وآخرون, تفسيرا «يركزعلى الطبيعة الإنسانية التي تنطوي على حاجات في الاتصال الدافئ المملوء بالثقة والعاطفة والاحترام المتبادل في صيرورة دائمة التطورويؤكد ممثلو هذا الاتجاه على احترام الإنسان واعتباره قيمة القيم بأهدافه, وحب اطلاعه وإبداعه, وهذا ما يسم الاتجاه الإنساني بالمظهر الإيجابي. إن واحدا من المفاهيم الأساسية لعلم النفس الإنساني في مجال الإبداع هو التحقيق الذاتي؛ ويعني الشحنة الدافعة نحو الإبداع الذي يمتلكه كل إنسان»[13].
ومن خلال دراساته على شخصيات كثيرة (منها توماس جيفرسون وإينشتاين ووليم جيمس وسبينوزا…) استخلص ماسلو مجموعة من الخصائص المميزة للأشخاص المحققين لذواتهم منها أساسا: أنهم أشخاص يدركون الواقع بشكل جيد؛ وعلىدرجة عالية في تقبلهم للذات والآخرين والطبيعة؛ يتميزون بالتلقائية والحاجة إلى الخصوصية والاستقلال ومقاومة التنميط؛ يتميزون بقوة التركيز حول مشكلة ما؛ تتميز أحكامهم بالأصالة, ومشاعرهم غنية وخصبة؛ ولديهم علاقات اجتماعية طيبة ؛يتقبلون الآخرين بسهولة؛ ويتسمون بالإبتكارية…إلخ[14].     
من المؤكد أن ابتكارات المبدعين إنما تحدث نتيجة التفاعل بين المكونات الشخصية (البيولوجية والنفسية والعقلية) وعوامل المحيط المباشرة وغير المباشرة, والتي تمارس تأثيرها سلبا وإيجابا في شخصية وقدراته وعملياته الابتكارية ونواتجه الإبداعية. ويبدو هذا التأثير على كل المستويات: فأنماط التربية والتنشئة الاجتماعية تلعب دورا حاسما في تنمية أو كبح السلوك والتفكير الابتكاريين. كما أن نوعية الأهداف التربوية والمناهج الدراسية وبنية النظام المدرسي واتجاهات المدرسين, كلها عوامل من شأنها أن تؤدي إلى تحفيز أو خنق الابتكار[15]. وإذا كانت المؤسسات الصناعية والإنتاجية تنتج وحدات متماثلة وتبتكر نوعيات جديدة في نفس الوقت, فإن الإبتكار داخلها لا يتوقف على إيجاد مواد جديدة, بل يتأثر أيضا بالمناخ المشجع والعلاقات الاجتماعية المفتوحة والعادلة والالتزام المهني والمشاركة[16]. وهي شروط تنطبق كذلك على المحيط الخارجي الذي يتفاعل معه المبدع يحتاج إلى الحرية والانطلاق وعدم الرضوخ لأي نوع من القهر, بما في ذلك القهر السياسي الذي يقضي في كثير من الأحيان على الحرية الإبداعية, ويؤدي إلى خنق الحركات الخلاقة[17]. كما يحتاج الإبتكار إلى جو ثقافي يتفاعل من خلاله المبدع مع الآخرين؛ ويفيد تزامن بعض الابتكارات في سياق تاريخي ثقافي معين وجود عوامل مستقلة عن شخصية المبدع, وصفها الكثيرون بروح العصر. ولذلك فالتراكمات المتعاقبة والمتزامنة التي تحصل في مجال معين إنما تدل على أن للنشاط الابتكاري بعدا اجتماعيا حضاريا, دون أن يعني ذلك إلغاء لدور شخصية المبدع كفرد؛ ولعل ذلك ما يقصده كولر Colar (1963) بقوله: «الابتكار مثل الصوت, لا يوجد في فراغ. فإذا ركزنا على الفرد دون تقدير لبيئته أو إطاره الثقافي, فإننا نضمن بذلك طريقا مؤكدا للوصول إلى نظرية ناقصة غير صحيحة عن الابتكار. وتقدم لنا العصور التاريخية مثل عصر النهضة, الذي ظهرت فيه كميات فائقة لا حصر لها من النشاط الإبداعي, دلالات قوية بأن شيئا في بيئة ذلك العصر قد أدى إلى تقدم ونمو هذا النشاط»[18].
إن الابتكار حسب هذا النموذج لا يقيم أو يوجد داخل دماغ أو بين يدي المبدع, ولا داخل مجال معطى, كما لا ينتج عن تأثيرات الآخرين. بل هو نتيجة تفاعل بين هذه الأقطاب الثلاثة[19]. وإذا كانت تفاعلات مكونات هذا المثلث تكشف عن مدى تعقد ظاهرة الابتكار, فهناك تفاعلات أخرى توجد داخل الزاوية الواحدة من المثلث. يتعلق الأمر بالشخص المبدع عامة, وبعلاقة الابتكار والذكاء خاصة.

إن الابتكار قابل للتنمية والتعلم داخل السياق الثقافي الطبيعي الذي ينتمي إليه الفرد. وتعتبر المدرسة سياقا حيويا وحاسما في القيام بهذا الدور. وإذا كان اهتمام البحوث خلال النصف الأول من القرن العشرين قد انصب بالخصوص على تمييز وكشف القدرات الابتكارية على أساس اختبارات الذكاء, فإن الاهتمام في العقود الأخيرة اتجه نحو دراسة طرق تكوين وتربية القدرات الابتكارية, بعد أن تأكد أنه من الممكن تكوين وتطوير اتجاهات الابتكار؛ (وتطرح نظرية الذكاءات المتعددة إمكانية لإنجاز ذلك من خلال خلق شروط الدمج بين الذكاءات). في هذا الإطار يورد روشكا تأكيدا لروث H.Roth  (1970) يعلن فيه أنه «ينبغي على المدرسة أن تكون المكان الذي يتم فيه تطوير المواهب وتحريضها, وأن علاقة المواهب بالتعليم أكثر أهمية من ارتباطها بالنضج وبالوسط المحيط. وهذا ما يجعل طرائق التعليم تضطلع بدور جديد يتصف بالدلالة والنموذجية»[20]. إن تنشيط سيرورة الابتكار لدى المتعلمين تفترض تجديدا في أدوار المدرسة, والتي يجب أن تتجاوز مهمة نقل الإرث الثقافي للمتعلمين, إلى إحداث التغيير المناسب فيهم, بالشكل الذي يراعي تعدد واختلاف قدراتهم وإمكاناتهم التي يسعون إلى تحقيقها عبر مختلف مظاهر الابتكار.
. ولعل هذا ما يبرر دعوة التقارير الدولية إلى تعليم مجدد توقعي, مرتبط بالمستقبل[21]؛ باعتبار وجود علاقة جدلية بين الابتكار والمستقبل. ففي تأكيده على الربط بين الطابع المستقبلي للتعليم ووظيفته المتمثلة في تنمية الابتكار يشير أحمد أوزي إلى أن «الفترة الحالية التي تمر بها المجتمعات البشرية وتعيش خلالها تطورات وتغيرات هائلة وسريعة, تجعل كل تعليم يكتسبه الفرد تعليما غير ملائم لمتطلبات الواقع وحاجاته المستقبلية. وقد دفع هذا الأمر المخططين التربويين إلى مراجعة النظم التربوية وتغييرها باستمرار. وأمام صعوبة استشراف حاجات المستقبل لإكساب المتعلم المهارات والقدرات والكفاءات الضرورية لاندماجه في المستقبل الذي يهيأ له, فإن السبيل الوحيد إلى مواجهة مستقبل مجهول هو تنمية شخصية المتعلم في مختلف جوانبها من جهة, واستثارة التفكير الابتكاري لديه من جهة ثانية…ومن ثمة توجهت جهود العلماء إلى البحث عن السبل الكفيلة بزرع الابتكار وتنميته؛ فهو رهان الحاضر والمستقبل»[22].
إذا كان تقرير نادي روما (1979) ينتقد التعلم القائم على الصيانة, فإنه يدعو بالمقابل إلى التعلم المجدد. «ويقوم التعلم المجدد على صياغة المشكلة وتجميع عناصرها. ومن إسهاماته الأساسية إحداث التكامل والتركيب وتوسيع الآفاق. وهو يعمل في المواقف والمنظومات المفتوحة, ويشتق معانيه مما يقع بين السياقات من نشاز وانعدام التناغم والتوافق مما يؤدي إلى التساؤل والاستفهام, ويثير الشك حول الفروض التقليدية والأفكار السائدة والأعمال المألوفة, ويركز على التغيرات التي لا بد أن تحدث؛ ويلاحظ أن قيمه ليست جامدة ولكنها متغيرة. ثم إن التعلم المجدد يرفع من مستوى تفكيرنا عن طريق إعادة تركيب الكليات, لا عن طريق تجزيء الواقع»[23]. والمبدأ الأول الذي يؤسس هذا التعلم هو مبدأ التوقع باعتباره قدرة على مواجهة مواقف جديدة لم يسبق لها مثيل؛ وقدرة على التعامل مع المستقبل ورؤية الحوادث قبل وقوعها, وعلى تقويم ما يترتب عن قرارات أو يتخذ من إجراءات؛ وهو قدرة على قياس النتائج الجانبية غير المقصودة أو المثيرة للدهشة؛ وهو عملية استنباط لبدائل جديدة, أي لما لم يكن له بدائل من قبل. ويشير تقرير اليونسكو (1996) إلى أنه من أجل مواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين تبين أنه من اللازم تحديد وإعلان الأهداف الجديدة للتربية, وبالتالي تغيير النظرة السائدة لوظيفتها وقيمتها. ويؤكد التقرير أنه ينبغي لأي تصور جديد موسع للتربية أن يمكن كل فرد من اكتشاف وإيقاظ وتعزيز قدرته الإبداعية؛ أي إبراز هذا الكنز الكامن داخل كل واحد منا. وهذا يتطلب تجاوز النظرة الأداتية الخالصة للتربية كمسلك حتمي للحصول على نتائج معينة, مقابل ومن أجل أن تكون هذه التربية ذات وظيفة شمولية تتمثل في الإنجاز الكامل للشخص l’accomplissement de la personne [24]. إن مثل هذا التأكيد يتفق تماما وتصور الاتجاه الإنساني (ماسلو وروجرز ) الذي سبقت الإشارة إليه, والذي يربط ويؤسس الابتكار على الحاجة إلى تحقيق الذات, باعتبار أن الشخص المحقق لذاته هو الذي يتصف بـ"الشخصية كاملة التوظيف"[25].
انطلاقا من خلاصات التقارير السابقة يمكن القول مع ألكسندر روشكا بأن «التربية الحقة هي التي تقود إلى الإبداع, متخذة بعين الاعتبار تربية التلاميذ والطلاب كلهم, انطلاقا من الإمكانية التي تقول: إن تربية الإبداع ممكنة لأي شخص طبيعي عادي من وجهة نظر عقلية. وتوجد اليوم براهين كثيرة على أن أي شخص عادي يمكن تطوير الإبداع لديه بقليل أو كثير, بهذا الاتجاه أو ذاك»[26]. وهو هدف لا يمكن تحقيقه إلا من خلال مناهج تعليمية تراعي تعدد القدرات الذهنية للمتعلمين, ومناخ إبداعي يحفز المبادرات الذاتية والأنشطة الجماعية. وفي إطار هذا العنصر الأخير الذي يرتبط مباشرة بممارسة المدرس, توصل تورانس (1962), كما أورد ذلك فاروق السيد عثمان[27], إلى أنه يمكن "ترشيد الموهبة الإبداعية" من خلال مراعاة مجموعة من المبادئ:
ـ إن التدعيم المعنوي أقوى فعالية من التأثير المادي في إثارة بعض الدوافع المرتبطة بتنشيط القدرات الإبداعية لدى الفرد (الإثابة الوجدانية ـ التشجيع التلقائي ـ احترام الأسئلة )
ـ  إن تمكين المتعلمين من التعرف على القيمة الحقيقية لمواهبهم وأفكارهم يدعم بقوة اتجاههم نحو مزيد من الإبداع.
ـ إن وعي المتعلم الإبداعي بأوجه القصور يتطلب من المدرس قدرا من التقبل والتسامح, وتفادي النقد والسخرية.
ـ من أساسيات التعلم الإبداعي التركيز على جميع المهارات الإبداعية حتى لو كانت محدودة.
ـ من الضروري الانتباه إلى الفرص غير المتوقعة واستغلال الفرص المتاحة لتنمية الإبداع.
ـ إن الكشف عن قيم ودوافع التلميذ المبدع يسهم في ابتكار استراتيجيات في التدريس (دوافع الاستقلال وتقديم مساهمات مبتكرة؛ دافع التفتح على الخبرة؛ دافع تحمل الغموض وتذوق المعقد؛ تفتح الاسلوب الاعتقادي وحب الاستطلاع).
ـ تجنب الربط بين الاختلاف عن المألوف والاضطراب العقلي.
ـ من الضروري أن يزود التعلم الإبداعي المتعلمين ببرامج وطرق تساعدهم على التغلب على مخاوفهم وجوانب القلق لديهم.
ـ من الضروري أن يولي التعلم الإبداعي اهتماما بتعلم طرق مواجهة الصعوبات والمتاعب والفشل, والتغلب عليها.       
وعلى أساس هذه المبادئ يمكن القول بأنه كلما راعى الوسط التربوي حرية واستقلال المتعلم تمكن هذا الأخير من إبراز قدراته الإبداعية؛ وقد توصل تايلور I.A.Taylor (1959) إلى أنه «بقدر ما يمنح الطفل إمكانية العفوية والاستقلالية يمكن أن يكون مبدعا فيما بعد»[28]؛ كما بينت دراسات مور O.Moor(1961) ودراسة أورنشتين (1961), كما أوردها حسن أحمد عيسى, «أن الكثير من الأشياء يمكن تعلمها بطريقة أكثر اقتصادا في الموقف الإبداعي عنه في الموقف التسلطي؛ وأن بعض الناس الذين يتعلمون القليل بالتسلط يستطيعون أن يتعلموا أكثر بالتربية الإبداعية»[29]. هكذا يمكن الربط بين مراعاة قدرات وفوارق المتعلمين داخل المدرسة وتنويع طرق التدريس داخل الفصل من جهة, ومفهوم المدرسة المتعددة التي تشكل فضاء أشبه ما يكون بمحترف متعدد الأروقة يمكن مختلف المتعلمين من تحقيق إمكاناتهم في مستوياتها القصوى.

 عبدالواحد الفقيهي ـــ أستاذ باحث ـ المركز الجهوي للتربية والتكوين ـ تطوان




ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

جنان تربويات


يرحب بكم ويرجو لكم كل الاستفادة